نظرية توم باراك
لم تعد فترة عدم الاستقرار المؤقت هي الاستراتيجية المُطبقة في الشرق الأوسط على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، بل نظامُ سيطرةٍ مُراد إدامته، حيث يُمثل هذا النظام الذي وُضع من قِبل مقرات الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة المتحدة، نظام سيادة إقليمية أُعيد هيكلته على أساس الوظائف والمواقع، متجاوزاً الصراعات التقليدية بين الدول والحدود الثابتة، فالسمة الأساسية لهذا النظام هي أنه لم يعد قائماً على الحدود، بل على الأدوار، حيث يُبنى هيكلٌ قائمٌ على الوظائف لا على الخرائط، وعلى التبعية لا على السيادة، وعلى القوات بالوكالة لا على الشعوب. إذن لم يعد بإمكان الدول والشعوب أن تعيش وفقاً لواقعها الخاص قط، بل وفقاً لاحتياجات خطة التصميم العالمية هذه.
حقي تكين
لم تعد فترة عدم الاستقرار المؤقت هي الاستراتيجية المُطبقة في الشرق الأوسط على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، بل نظامُ سيطرةٍ مُراد إدامته، حيث يُمثل هذا النظام الذي وُضع من قِبل مقرات الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة المتحدة، نظام سيادة إقليمية أُعيد هيكلته على أساس الوظائف والمواقع، متجاوزاً الصراعات التقليدية بين الدول والحدود الثابتة، فالسمة الأساسية لهذا النظام هي أنه لم يعد قائماً على الحدود، بل على الأدوار، حيث يُبنى هيكلٌ قائمٌ على الوظائف لا على الخرائط، وعلى التبعية لا على السيادة، وعلى القوات بالوكالة لا على الشعوب. إذن لم يعد بإمكان الدول والشعوب أن تعيش وفقاً لواقعها الخاص قط، بل وفقاً لاحتياجات خطة التصميم العالمية هذه.
إن نظام الشرق الأوسط الجديد يرى الدول القوية المركزية ذات القدرة على اتخاذ القرار المستقل كتهديد، لذلك ليس الهدف تدمير دول مثل تركيا وإيران وسوريا والعراق ولبنان تدميراً كاملاً، بل تفكيكها داخلياً، وجعلها عاجزة عن أداء وظائفها، وخاضعة للقوى الخارجية، حيث يتم إضعاف الدول من الداخل بفعل الأزمات الداخلية، والصعوبات الاقتصادية، والصراعات المذهبية والأثنية، مما يحولها إلى جهات فاعلة تؤدي أدوارها الموكلة إليها وتفتقر إلى استقلالية القرار، لكنها يُحتَفَظ بمكانتها الفاعلة. لقد برزت خريطةُ استراتيجيةٍ لا تستطيع فيها أي دولة تحديد أجندتها الخاصة، لكن مع ذلك تُستخدم كل دولة كورقة ضغط في المفاوضات الإقليمية.
لا بدّ من فتح قوسين هنا؛ فشرحُ معنى هذه الاستراتيجية بالنسبة للدول والشعوب يُعتَبَر أمرٌ بالغ الأهمية لفهم الفوضى المتحكَّم بها.
إن التصريحات الأخيرة لتوم باراك، السفير الأمريكي لدى تركيا والممثل الخاص لسوريا، مثل “دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد” ومعارضته للفيدرالية، لا تتعارض مع سياسات الدولة المركزية، فإضعاف الدول القومية وتفتيتها قولاً وفعلاً، والسعي الحالي لتقويتها، ليسا تناقضين، بل قد يكونان مرحلتين متمايزتين من سيناريو استراتيجي مضبوط. لقد دمّر المحور الأمريكي-الإسرائيلي دولاً قومية في الشرق الأوسط داخلياً تحت ستار الاستقرار، مما خلق دولاً ضعيفة ومجزأة وغير قادرة على اتخاذ قراراتها بنفسها، وهكذا، أُضعفت العديد من الدول القومية وتشرذمت، وأُجبِرَت على التبعية الخارجية، وتقبلت أدواراً مُوكلة إليها، إلى جانب ذلك؛ سُلِّحت الهياكل المحلية واستُغِلَّت لمنع الشعوب من أن تصبح فاعلة وبالتالي منع ظهور إدارة بديلة، وكذلك تم إلهاؤهم بوعود كاذبة. هنا تحديداً لعبت نظرية الفوضى المُتحَكَّم بها دورها على أكمل وجه، حيث لم يُطَبَّق حلٌّ تام، ولا تدمير شامل، ولا ثورة حقيقية، بل طُبِقَّت استراتيجية أزمة مُتحَكَّم بها باستمرار.
بدأت المرحلة الثانية وفقاً للاستراتيجية، ويُعتبر تصريح توم باراك إفشاءً سابقاً لأوانه، لأن سوريا تُمثل مختبراًللشرق الأوسط، حيث يُجبَرَون على الانخراط في عمليةِ تعافي من خلال هذه الدولة المختارة، ولكن هذا ليس بمبادرتهم الخاصة، ولم يعد الهدف هنا الفوضى، بل إنشاء مناطق آمنة ودول مُسيطر عليها، تُحافظ على التوازن الإقليمي، فخصائص الدول المُسيطر عليها التي ستُنشَأ لهذا الغرض هي: قبول الدور المُوكل إليها، وعدم تمتعهابالسيادة الكاملة، بل بالشراكة الأمنية، وحماية أمن إسرائيل والسوق، والاندماج في المعادلة المُعادية لإيران، والتدخل المُشترك ضد أي أصوات ثورية جديدة تظهر داخلياً، ففي هذه النقطة؛ إما ستُطَبَّق استراتيجية قمع حقوق الشعب الكردي أو سيتم الحفاظ عليها عند مستوى مقبول. فلْنُكمل…
إن استعدادات الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة المتحدة للانتقال إلى المرحلة الثانية على مستوى الدول في عملية تصميم الشرق الأوسط، مع مبادراتها المتعلقة بـ “الدول الآمنة والمناطق الخاضعة للسيطرة”، تشكّل الركائز الاستراتيجية لهذا المفهوم.
بينما تجري هذه العملية على مستوى الدول، فإن البُعد الثاني والأعمق لهذا التصميم يتعلق بالشعوب، لذا لا ينبغي للشعوب أن تكون فاعلة، بل ينبغي أن يتم جعلها مجرد أداة وظيفية، فالاختلافات الدينية أو الأثنية أو القائمة على الهوية ليست ثراءً، بل أدوات للتقسيم والتجزئة والتوجيه. لقد استُغلت جميع الفوالق، مثل السنة–الشيعة، العرب–الكرد، الترك–الكرد، الدروز–السُنة، المسيحيين–المسلمين، لجر شعوب المنطقة إلى حروب أهلية وجعلها عرضة للتدخل الخارجي، فجوهر هذه الخطة هو: لا ينبغي أن تكون الدول مركزية، وفي نهاية المطاف يجب أن تقبل دورها ووظيفتها، ولا ينبغي أن تكون الشعوب ذوات إرادة وقوة، وكذلك يجب إعادة تعريف الجميع وفقاًلنظام السيطرة هذا.
إنّ الدور المُسند للشعب الكردي يكمن في محور هذا النظام، ومنذ زمن طويل يقاوم الكرد المنقسمون إلى أربعة أجزاء، والذين تُركوا بلا هوية ولا مكانة، ويُنظَر إلى الخطر الذي خلقته هذه المقاومة ليس فقط من منظور الهيمنة الإقليمية، بل أيضاً من منظور الهيمنة العالمية. إن الشعب الكردي الذي يُنمّي إرادته، ويُطوّر تنظيمه، ويسلك درب الحرية، لديه القدرة على إحباط البنية القمعية للدول القومية، وأيضاً إحباط المخطط الاستراتيجي المُتمركز حول الولايات المتحدة وإسرائيل، لذلك لا يُصوَّر الشعب الكردي كفاعلٍ رابحٍ للمكانة، بل كأداةٍ فعّالة، وأداةٍ مؤقتةٍ تُستخدم عند الضرورة.
في الحقيقة يُملي هذا الموقف بوضوح أن يبقى الكرد بلا دولة، مجزَّأين، آخذين موقع المفعول به، تابعين وموجَّهين،ويتم فرض أدوار معينة عليهم دون التمتع بالحقوق أو الحرية، وحتى لو تم منحهم أيُّ حقٍّ، فذلك من أساسيات الدور الممنوح لهم، وفي معظم الأحيان يكون هذا الدور من أجل الضغط على إيران، وأحياناً أخرى لخلق توازن مع تركيا، وأحياناً أخرى لتوجيه رسالة إلى دمشق، وأحيانًا أخرى لضمان الأمن في إسرائيل ومحيطه، إلا أنّ إرادة الكرد لا تكون حاسمة في أيٍّ من هذه الحالات، ففي كلٍّ من هذه الحالات، يتم تقديمهم باسم الطرفٍ الآخر ثم يُهمّشون، وفي الواقع لم يعد هذا الموقف مستتراً، بل أصبح استراتيجيةً منهجية.
التنازلات التي قدمتها تركيا وسوريا في تصميمِ شرقِ أوسطٍ جديد
لم يعد تصميم شرق أوسط جديد من قِبَل مركز الولايات المتحدة–إسرائيل، مجرد افتراض، بل نظام استراتيجي فعلي قيد التنفيذ، إذ يقوم هذا النظام بإعادة توزيع الأدوار لا إعادة ترسيم الحدود، حيث أصبحت الولاءات، الأدوات، إمكانية التحكم والوظائفية، هي المعايير المُحددة للدول والشعوب، وفي هذا السياق؛ أصبحت الأدوار المكلّفة لتركيا وسوريا، والتنازلات التي قدمتاها، وكيفية جعل الشعب الكردي مجرد وسيلة وأداة ضمن هذا الإطار، مسائل بالغة الأهمية.
قدمت تركيا تنازلات متعددة الجوانب وعميقة من أجل الامتثال لهذه الاستراتيجية، ففي السياسة الخارجية، انحازت إلى إسرائيل، والتزمت الصمت تجاه قضيتَي شرق المتوسط وفلسطين، وتولّت دوراً في الجبهة المعادية لإيران، ووافقت على خطة احتلال دائم في سوريا. أما على الصعيد الداخلي، فقد ماطلت بإطالة أمد المفاوضات مع الكرد، وفي الوقت نفسه، ماطلت بنشر قوات عسكرية وقوات بالوكالة في شمال سوريا، واندمجت فعلياً في الاستراتيجية الأمريكية–الإسرائيلية. في الحقيقة قد أضعف هذا الموقف سيادة سوريا وحدَّ من المبادرة السياسية للشعب الكردي، وهكذا ساهمت تركيا في مخطط “الورقة الكردية القابلة للتحكم بها” الأمريكي، وفي المقابل تأملت حمايةً ودوراً إقليمياً.
من ناحية أخرى، فقدت سوريا وَصفَها كدولة بالمعنى التقليدي، وبالتالي انتقلت السيطرة الفعلية إلى قوى مختلفة، وأصبحت البلاد مجزأة، حيث انهار الهيكل المركزي لسوريا، أما بقايا الهيكل الرمزي فإنه يحاول إيجاد مكانه داخل النظام من خلال أداء الدور المكلف به، فمن أهم التنازلات التي قُدِمت في هذا السياق هي ترسيم الحدود مع لبنانووضع حد لإيران، ومنح إسرائيل موافقة رسمية بشأن مرتفعات الجولان، ففي الوقت نفسه، اندمجت سوريا تدريجياً في عملية التطبيع العربي–الإسرائيلي، مما جعلها أقرب إلى تصميم الاتفاقيات الابراهيمية، وبالتالي هذا يدل على أن النظام يتنازل عن السيادة من أجل استمرار وجوده.
استخدمت الدولتان الورقة الكردية كأداة تفاوض للاندماج مع النظام الأمريكي–الإسرائيلي، جاعلتَين من قمع الإرادة الذاتية للشعب الكردي، مصلحة مشتركة، وقد تأكدت هذه الصورة بوضوح في تصريحات النائب الأمريكي توم باراك، فتركيزه في تصريحه على “أمة واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، ورفض مفاهيمٍ كالفيدرالية والإدارة الذاتية، هو في الواقع انعكاسٌ للاتفاقياتٍ المبرمة والمتعددة الجوانب، وإعلانٌ عن خطةِ تطهيرٍ تستهدف الشعب الكردي. في الواقع إنّ لغة توم باراك لا تُشبه لغة أردوغان فحسب، بل أيضاً تمثيلٌ للسيناريو نفسه مع أردوغان والجهات الفعالة المنظِّمة الجديدة في المنطقة.
إن دور توم باراك كممثل خاص في كل من أنقرة وسوريا، يُظهِر أنه يعمل في آنٍ واحد كمنسق، وليس كطرفِ توازنٍ بين قطبين متضادَين. في الحقيقة إن أصوله اللبنانية وشهرته في العالم العربي، تجعلاه شخصيةً قادرةً على بناء علاقات وثيقة ليس فقط مع الولايات المتحدة، بل أيضاً مع القوموية العربية، وبالتالي هذا يُشير إلى أنه يمتلك القدرة على توحيد الجانبين العربي والتركي داخل الكتلة المناهضة للكرد، وهذه ليست مجرد علاقة شخصية،بل ينبغي اعتبار دوره كمبعوث خاص للرئيس الأمريكي ترامب ذا أهمية، إذْ يُوسِّع نطاق المشروع. إذا نجحت الاستراتيجية المُقدَّمة، فمن المرجح أن يُشير التاريخ إلى عملية التصميم هذه باسم “اتفاقية توم باراك”.
ما هي نظرية توم باراك؟ إنها الصيغة الدبلوماسية البراغماتية لاستراتيجية الولايات المتحدة الرامية إلى تفريغ الدول القومية في الشرق الأوسط من مضمونها، وجعلها تابعة للقوى الخارجية، وتقليص دور الشعوب إلى مجرد أدوار وظيفية دون أن يكونوا فاعلين. برزت هذه النظرية كنموذج هندسي جيوسياسي أكثر تطوراً، بعد الحقبة الكلاسيكية للتدخل العسكري وتغيير الأنظمة، حيث يهدف النهج الذي يمثله باراك إلى تحقيق استقرار إقليمي ووظائف مُتحكَّم بها، من خلال إبرام اتفاقيات قائمة على المصالح والوظائفية، ولا سيما مع دول مثل دول الخليج وتركيا وسوريا، وكذلك من خلال وضع الشعوب والهويات الأثنية والهياكل المذهبية والأقليات كقوى بالوكالة على الأرض. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، لا تهدف هذه النظرية إلى تعزيز كون الشعوب فاعلين ديمقراطيين، بل تهدفإلى اتباع سياسة الصَهر الأمني، حيث تقوم الهياكل الأمنية والدول الشريكة بالتحكم بهذه الشعوب، وبالتالي تعزيز وجودهم ضمن دولة واحدة وجيش واحد وأمة واحدة ونظام حكومة واحد، كما أنها لا تهدف إلى تطوير أنظمة ديمقراطية، بل إلى تطوير شبكات بالوكالة بدلاً من الأنظمة المتفككة.
إن جوهر هذه النظرية هو أن شعوب الشرق الأوسط لن يُسمح لها أبداً بالظهور على المسرح بمحض إرادتها، ولكن سيتم التسامح مع وجودها طالما أظهرت ولاءً ووظائفَ وأدواراً مُتحَكَّم بها.
إن التصريح المُدلى به في هذا السياق هو تعبير عن استراتيجية تسمح للكرد ببقائهم كمجرد أدوات خاضعة للسيطرة، بينما تُعتبر مطالبهم بالحرية وبأن يكونوا فاعلين، تهديداً واضحاً. الشعب الكردي في قلب هذه اللعبة، ولكنه يُختَزَل إلى ورقة استراتيجية وأداة وعنصر توازن، بدلاً من أن يكون فاعلاً، فالتنازلات المُقدَّمة لا تعني فقط القضاء على الكرد، بل أيضاً قمع الإرادة الذاتية للشعوب.
الورقة الكردية واستراتيجية الأداتية
من أبرز أدوات استراتيجية الشرق الأوسط المستخدَمة من قِبَل مركز الولايات المتحدة–إسرائيل هي الورقة الكردية،ففي هذه الاستراتيجية، يُعامَل الشعب الكردي كـ “ورقة وظيفية” تُستخدَم إمّا لزعزعة الوضع أو لإعادة التوازن إليه، متجاهلةً إرادته الذاتية وحقوقه التاريخية ومطالبه الديمقراطية. على سبيل المثال؛ في العراق وسوريا وإيران وتركيا، لا يُعامَل الكرد كقوةِ حل، بل كأداة لإدارة الأزمات وإخضاع الدول.
من الواضح أن هذا النظام يمنح الكرد ولاءً ودوراً، لا مطالبَ بدولة أو مكانة أو مواطنة متساوية، إنهم يعارضون التطورات القائمة على الديمقراطية والحرية والمساواة في المكانة، لأنه لا مكانَ لدولةٍ مركزيةٍ قويةٍ، ولواقعٍ شعبيٍّمنظَّمٍ وذو إرادة، في استراتيجية الفوضى المُتحَكَّم بها، لذلك تُرفَض مطالب الكرد بنظامٍ كونفدرالي ديمقراطي، وتُنشَأ “قوى بالوكالة” لإبقائهم تحت السيطرة، وتُوظَّف مفاهيم مثل الإدارة الذاتية أو الفيدرالية تكتيكياً فقط، أي تُستَدعى في أوقات الأزمات ثم تُهمَل. إن تصريح السفير الأمريكي “أمة واحدة، جيش واحد، سوريا واحدة” لافتٌ للنظر للغاية في هذا الصدد، وهذا يعني أننا دخلنا الآن مرحلة إنكارٍ صريحٍ وتصفيةٍ، لا مرحلة وعودٍ كاذبة.
في هذه الاستراتيجية لغة تهديدٍ بالقضاء على الشعب الكردي بأكمله، وليس فقط على الحركات الكردية ذات الإرادة الذاتية، فحتى في العراق، هناك خطط لإلغاء النظام الفيدرالي وتطوير نظام على مستوى المحافظات، لأن أهداف الشعب الكردي وتطلعاته إلى وضع حر من خلال إرادة الشعب المُنظمة في القرن الجديد، تُشكل تحدياً مباشراًلهذا النظام الأداتي، فالاستراتيجية القائمة على التنظيم الذاتي للشعوب، بالاعتماد على التنظيم الداخلي بدلًا من القوى الخارجية، تتعارض مع مصالح كل من الدول القائمة والهيمنة العالمية.
إن الأمة الديمقراطية على وجه الخصوص ونهجها الكونفدرالي الديمقراطي، تنشئ مساحةً غير مسيطَر عليها، وذلك برفضها منطق القوى بالوكالة ومنح الشعوب القوة في تقرير مصيرهم بأنفسهم، لذلك فإن القوى الخارجية وأدواتها الداخلية، على حدٍّ سواء، جعلتا من القضاء على هذا النهج هدفاً استراتيجياً. يحاول البعض تشويه سمعة هذا النهج بزعم أنه “يُعيق بناء الدولة”، بينما يصفه آخرون بأنه “تابع وخاضع”، علماً أنّ كِلا النهجينالبروبوغندائيَين هما نتاج مركز واحد، يعملان على جعل الشعوب أداتيين.
اليوم؛ تُعدّ سياسة الخط الثالث، والتي هي مسار مقاومة لا يقوم على الخضوع للدولة ولا على أدوات القوة الخارجية، الباراديغما الأكثر واقعيةً وتهديداً في الشرق الأوسط، وذلك لأن هذه السياسة لا تجعل من حقول النفط ورقة تفاوض، ولا تُقدِّم قوة مقاومة الشعب كمقبلات للقوى الخارجية، بل تقترح نظاماً بنّاءً ذاتياً يعتمد على المجتمع، لا على القوى الخارجية.
لذلك فإنّ نهج الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية ليسا فائضَين عن الحاجة، بل يُشكّلان خطراً واضحاًعلى خريطة الشرق الأوسط الجديد، والتي رسمتها الولايات المتحدة وإسرائيل. في الحقيقة إنّ ما يُراد تصفيتهليس مجرد توجه أيديولوجي، بل أيضاً قدرة الشعوب على المقاومة المشتركة، لذلك؛ ليس الكرد وحدهم، بل العرب والتركمان والآشوريون والدروز وجميع الشعوب المضطهَدة، هم تحت هذا التهديد. لذا فإنّ تبنّي هذا النهج هو قضيةُ حريةٍ، ليس للكرد فحسب، بل للمنطقة برمّتها.
المنعطَف الاستراتيجي
إن قيام السفير الأمريكي الذي يمثل الولايات المتحدة في تركيا وسوريا، بتصميم المنطقة وفقاً لأنقرة، مستخدِماً خطاب أردوغان لإعلان “أمة واحدة، جيش واحد، سوريا واحدة”، ليس مجرد خطأ دبلوماسي، بل هو منعطفاستراتيجي في التوجه، وهذا التصريح هو الإعلان الرسمي عن نظام شرقِ أوسطٍ جديدٍ، الذي يُبنى تدريجياً منذ فترة، والآن وُزِّعتْ الأدوار، والجهات الفاعلة على الأرض مفصولة عن بعضها بخطوط رمادية، فالبعض منهم أداة، أما مَن يريد أن يكون الفاعل، يصبح مُستهدفاً.
توقيت هذا التصريح مهمٌّ أيضاً، حيث شُنَّ هجومٌ إسرائيليٌّ على إيران، وحافظ حزب الحياة الحرة الكردستاني على موقفٍ مستقلٍّ في هذا الصراع، مُعلناً: “لسنا طرفاً“، و”نحن الخط الثالث”، بينما حاولت روج آفا الحفاظ على خطّها الخاص، أي خلال الفترة نفسها، وفي حين أن تركيا كانت تُعطي انطباعاً بإجراء عملية تفاوض مع خطّ القائد آبو، حشدت جميع مواردها الميدانية للقضاء على هذا الخطّ، وهذا يُعتَبَر تطورٌ خطيرٌ بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، لأن خطّتهما هي جعل الشعب الكردي أداتي، دون السماح له بأن يصبح فاعلاً. ومن ناحيةٍ أخرى، تُمارس تركيا نوعاً من “لعبةٍ ذات وجهين”، إذْ تُقوّض هذا الخطّ وأيضاً تُحافظ على مكانتها من خلال دمجنفسها في هذا المخطط. إذن في هذه النقطة تحديداً، يُعدّ تصريح السفير بمثابة مكافأةٍ لتركيا.
وعلى نفس المنوال؛ يبدو أن النظام السوري قد رضخ للتصميم الأمريكي–الإسرائيلي، فهناك ما هو متداول عنالتخلي التام عن مرتفعات الجولان لإسرائيل، والانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، فمن خلال الاحتلال التركي يتم الاستيلاء على أماكن عديدة، ويتم تقسيم السيادة الوطنية السورية فعلياً، وبالتالي يتحول شعار “سوريا الواحدة” إلى مسرحيةٍ كاتبها ومخرجها معروفان.
استخدمت تركيا الورقة الكردية كأداة ضغط محلياً ودولياً، مثبتةً بذلك موقعها في المحور الأمريكي–الإسرائيلي،وفي المقابل حصلت على موافقة واضحة للقضاء على الكرد.
لقد فقدت سوريا الآن سيادتها، وأصبحت تحكمها هياكل مكلفة من قبل الولايات المتحدة مثل هيئة تحرير الشام والجولاني، في حين تنسحب إيران وروسيا من الميدان أو يتم عزلهما.
استُهدف الكرد، وخاصةً نهج للقائد آبو، بشكل مباشر لرفضهم الخضوع للنظام الأداتي، وكذلك تُسحَق مطالبهم كالإدارة الذاتية والكونفدرالية والوحدة الديمقراطية للشعوب تحت شعار “جيش واحد، دولة واحدة”.
إنّ الصورة الاستراتيجية التي تتضح في ظل هذه الظروف هي: إما أن تصبح شعوب الشرق الأوسط أدوات على هذه الخريطة الجديدة، أو، كما في نهج القائد آبو، تُرسخ إرادتها. قد يتم قطع الوعد بوضعٍ مؤقتٍ مقابل الأداتيةوالولاء والخضوع، لكن هذا يعني تنازل الشعوب نهائياً عن مستقبلهم وتاريخهم وشرفهم، وبالتالي يتم خلقُ صراعٍ فيما بينهم، ويصبحون مجرد عصا بيد الأعداء. إذن هنا بالتحديد يظهر الفالق الاستراتيجي.
قاومت الشعوب مراراً وتكراراً بحكم طبيعتهم الثقافية، خطط السيطرة والتصميم في الشرق الأوسط وأحبطوا هذه الاستراتيجيات، ففي الاستراتيجية الأحدث نجد أنّ مفاهيم قولبة الشعب من خلال جمع الثقافات حول الطاولة بمخططات مكتبية لن تُجدي نفعاً، بل على العكس من ذلك؛ فهذه الاستراتيجيات قد دفعت الشعوب إلى نقطةانفجار كبرى، وأوجدت الأساس المادي والاجتماعي لقيامهم بتدميرها، لذلك لم تضّح العملية بعدْ، والحرب مستمرة، لكن الأهم في هذه العملية هو سياسة سليمة، واتفاقيات متينة، وتنظيم شعبي قوي، وإرادة للدفاع عن النفس، فمن يحافظ على هذه الصفات سيترك بصماته على هذه العملية.
لذا؛ فإن المهمة اليوم ليست فضح هذا التصريح، بل إدراك معناه وإظهار الخيار الحقيقي للشعوب، فقد كشفت كلمات السفير، الدور الموكل للشعب الكردي، ليس فقط من قِبل الولايات المتحدة، بل من قِبل النظام بأكمله، والآن هو الوقت المناسب لمواجهة هذه الحقيقة ورؤيتها، فليس هذا وقت الوعود الكاذبة، ولا المماطلة التي تقول “سنعترف بكم”، بل هو وقت التنظيم الاجتماعي، وتحالف الشعوب، وخط ونهج استراتيجي ذاتي.